الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي بين الخيرِ وبينِي وقيل: ضيمر بينَهم للفريقينِ جميعًا {فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هذا هو الذي يستدعيِه مساقُ النَّظمِ الكريم، وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلًا على دلالة المساقِ عليهم، ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين ما نعبُدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله إنَّ الله يحكم بينهم أي بين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ، كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافًا مُحوِجًا إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة. وقُرئ {قالُوا ما نعبدُهم} فهو بدلٌ من الصِّلةِ ولا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبارِ بذلك مزيدُ مزيِّةٍ. وقُرئ {ما نعبدكم إلاَّ لتُقرِّبونا} حكايةً لما خاطبُوا به آلهتَهم. وقُرئ {نعبدُهم} إتباعًا للباء {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى} أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ {مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغييرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ. والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى.{لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} الخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ الحقِّ وإبطالِ القولِ بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله وعيسى ابنُه تعالى عن ذلك عُلَّوًا كبيرًا ببيانِ استحالةِ اتَّخاذ الولدِ في حقَّه تعالى على الإطلاقِ ليندرجَ فيه استحالةُ ما قيل اندراجًا أوليًّا أي أرادَ الله أنْ يتَّخذَ وَلَدًا {لاصطفى} أي لاتَّخذَ {مِمَّا يَخْلُقُ} أي من جملة ما يخلقُه أو من جنس ما يخلقه {مَا يَشَاء} أنْ يتَّخذَه إذْ لا موجودَ سواهُ إلاَّ وهو مخلوقٌ له تعالى لامتناعِ تعدُّدِ الواجبِ ووجوبِ استنادِ جميعِ ما عداهُ إليه، ومن البيِّنِ أنَّ اتِّخاذَ الولد منوطٌ بالمماثلة بين المتَّخِذِ والمتَّخَذِ وأنَّ المخلوقَ لا يُماثل خالقَه حتَّى يمكن اتِّخاذُه ولدًا فما فرضناه اتِّخاذَ ولدٍ لم يكُن اتِّخاذَ ولدٍ بل اصطفاءُ عبدٍ وإليه أُشير حيث وُضع الاصطفاءُ موضع الاتِّخاذِ الذي تقتضيهِ الشَّرطَّيةُ تنبيهًا على استحالةِ مُقدمها لاستلزامِ فرض وقوعِه بل فرضِ إرادةِ وقوعِه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أنْ يتَّخذَ ولدًا لفعل شيئًا ليس هو من اتِّخاذِ الولد في شيءٍ أصلًا بل إنَّما هو اصطفاءُ عبدٍ ولا ريب في أنَّ ما يستلزم فرضُ وقوَعه انتفاءَه فهو ممتنعٌ قطعًا فكأنَّه قيل لو أراد الله أنْ يتَّخذَ ولدًا لامتنع ولم يصحَّ لكن لا على أنَّ الامتناعَ منوطٌ بتحقُّقِ الإرادة بل على أنَّه مُتحقِّقٌ عند عدمِها بطريقِ الأَولوَّيةِ على منوال لو لم يخفِ الله لم يعصِه. وقوله تعالى: {سبحانه} تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتِّخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به على أنَّ السُّبحانَ مصدر من سبَح إذا بعُد أو أسبِّحه تسبيحًا لائقًا به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحًا حقيقًا بشأنِه. وقولُه تعالى: {هُوَ الله الواحد القهار} استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمُشاركة ببنه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقنًا، وكذا وصف القهَّاريَّةِ لما أنَّ اتِّخاذَ الولد شأنُ مَن يكون تحتَ ملكوتِ الغيرِ عُرضةً للفناءِ ليقومَ ولدُه مقامَه عند فنائِه ومَن هو مستحيلُ الفناءِ قهَّارٌ لكلِّ الكائناتِ كيفَ يُتصوُرُ أنْ يتَّخذَ من الأشياءِ الفانيةِ ما يقومُ مقامَه.وقولُه تعالى: {خلَقَ السموات والأرض بالحق} تفصيلٌ لبعض أفعالِه تعالى الدَّالَّةِ على تفرُّدِه بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلة أي خلقهما وما بينهما من الموجوداتِ ملتبِسة بالحقِّ والصَّوابِ مشتملة على الحِكَم والمصالح. وقولُه تعالى: {يُكَوّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى الليل} بيانٌ لكيفيَّةِ تصرُّفةِ تعالى فيهما بعد بيان خلقِهما فإنَّ حدوثَ اللَّيلِ والنَّهارِ في الأرض منوطٌ بتحريك السَّمواتِ أي يغشى كلُّ واحدٍ منُهما الآخرَ كأنَّه يلفه عليه لفَّ اللباسِ على اللاَّبسِ أو يُغيبه به كما يُغيَّبُ الملفوفُ باللُّفافةِ أو يجعله كارًَّا عليه كُرورًا متتابعًا تتابع أكوارِ العمامةِ. وصيغةُ المضارع للدِّلالةِ على التَّجدُّدِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جعلهما منقادينِ لأمرِه تعالى. وقولُه تعالى: {كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} بيانٌ لكيفيَّةِ تسخيرِهما أي كلٌّ منهما يجري لمُنتهى دورتِه أو منقطعِ حركتِه وقد مرَّ تفصيلُه غيرَ مرَّةٍ {إِلاَّ هُوَ العزيز} الغالبُ القادرُ على كلِّ شيءٍ من الأشياءِ التي من جُملتها عقابُ العُصاةِ {الغفار} المبالغُ في المغفرةِ ولذلك لا يُعاجل بالعقوبةِ وسلب ما في هذه الصَّنائعِ البديعة من آثارِ الرَّحمةِ. وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّنبيهِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها.{خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعالِه الدَّالَّةِ على ما ذُكر، وتركُ عطفِه على خلقِ السَّمواتِ للإيذانِ باستقلالِه في الدِّلالةِ ولتعلُّقِه بالعالم السُّفلي، والبَداءةُ يخلق الإنسانِ لعراقتِه في الدِّلالةِ لما فيه من تعاجيبِ آثارِ القُدرةِ وأسرارِ الحكمةِ وأصالتِه في المعرفةِ فإنَّ الإنسانَ بحالِ نفسِه أعرفُ والمرادُ بالنَّفسِ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ. وقوله: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطفٌ على محذوفٍ هو صفةٌ لنفس أي منْ نفسٍ خلقَها ثمَّ جعل منها زَوْجَها أو على معنى واحدةٍ أي من نفسٍ واحدةٍ ثمَّ جعلَ منها زَوْجها فشَفَعها أو على خلقكم لتفاوتِ ما بينهما في الدِّلالةِ فإنَّهما وإن كانتا آيتينِ دالتَّينِ على ما ذُكر لكن الأُولى لاستمرارِها صارتْ معتادةً وأما الثَّانيةُ فحيثُ لم تكن معتادةً خارجةً عن قياسِ الأولى كما يُشعر به التَّعبيرُ عنها بالجعلِ دون الخلقِ كانت أدخلَ في كونِها آيةً وأجلبَ للتَّعجُّبِ من السَّامعِ فعطفت على الأولى بثمَّ دلالةً على مباينتِها لها فضلًا ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادةِ كونِها آيةً فهو من التَّراخي في الحالِ والمنزلةِ. وقيل أخرج ذريَّةَ آدمَ من ظهرهِ كالذَّرِّ ثم خلقَ منه حواء ففيهِ ثلاثُ آياتٍ مترتِّبة: خلقُ آدمَ عليه السَّلامُ بلا أبٍ وأمَ وخلقُ حوَّاءَ من قُصيراه، ثم تشعيبُ الخلقِ الفائتِ للحصرِ منهما. وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدَّالَّةِ على ما ذُكر أي قضى أو قسَم لكم فإنَّ قضاياهُ وقسمه تُوصف بالنُّزولِ من السَّماءِ حيثُ تُكتب في اللَّوحِ المحفوظِ أو أحدثَ لكم بأسبابٍ نازلةٍ من السَّماءِ كالأمطارِ وأشعَّةِ الكواكبِ {مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} ذكرًا وأُنثى هي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعزُ وقيل خلقَها في الجنَّةِ ثمَّ أنزلها. وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعولِ والصَّريحِ لما مرَّ مرارًا من الاعتناءِ بما قُدِّم والتَّشويقِ إلى ما أُخِّر فإنَّ كونِ الإنزالِ لمنافعِهم وكونَه من الجهةِ العاليةِ من الأمورِ المهمَّةِ المشوِّقةِ إلى ما أُنزل لا محالةَ. وقولُه تعالى: {يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أمهاتكم} استئنافٌ مسوقٌ لبيان كيفيَّةِ خلقِهم وأطواره المختلفةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ. وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على التَّدرجِ والتَّجدُّدِ. وقولُه تعالى: {خَلْقًا مّن بَعْدِ خَلْقٍ} مصدرٌ مؤكد أي يخلقكُم فيها خلقًا كائنًا من بعدِ خلقٍ أي خلقًا مدرجًا حيوانًا سَويًا من بعد عظام مكسوَّةٍ لحمًا من بعد عظامٍ عارية من بعد مُضَغ مخلَّقةٍ من بعد مضغ غير مخلَّقةٍ من بعد علقةٍ من بعد نُطفةٍ {فِى ظلمات ثلاث} متعلِّق بيخلقُكم وهي ظُلمة البطن وظُلمة الرَّحمِ وظُلمة المشيمةِ أو ظُلمة الصُّلبِ والبطنِ والرَّحِمِ.{ذلكم} إشارة إليه تعالى باعتبارِ أفعالِه المذكورةِ، وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بُبعد منزلتِه تعالى في العظمةِ والكبرياءِ. ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ أي ذلكم العظيمُ الشَّأنِ الذي عددت أفعاله {الله} وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ} خبرٌ آخرُ أي مُربيكم فيما ذُكر من الأطوارِ وفيما بعدَها ومالككم المستحقُّ لتخصيصِ العبادةِ به {لَهُ الملك} على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوهِ. والجملةُ خبرٌ آخرُ. وكذا قولُه تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} والفاء في قوله تعالى: {فأنى تُصْرَفُونَ} لترتيبِ ما بعدَها على ما ذُكر من شؤونِه تعالى أي فكيفَ تُصرفون عن عبادتِه تعالى مع وفورِ موجباتِها ودواعيها وانتفاءِ الصَّارفِ عنها بالكُلِّيةِ إلى عبادةِ غيرِه من غير داعٍ إليها مع كثرة الصَّوارفِ عنها.{إِن تَكْفُرُواْ} به تعالى بعد مشاهدةِ ما ذُكر من فنونِ نعمائِه ومعرفةِ شؤونِه العظيمةِ الموجبةِ للإيمانِ والشُّكرِ {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي فاعلمُوا أنَّه تعالى غنيٌّ عن إيمانِكم وشكركم غيرُ متأثِّرٍ من انتفائهما {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي عدمُ رضاه بكفر عباده لأجل منفعتِهم ودفعِ مضرَّتِهم رحمةً عليهم لا لتضرُّرهِ تعالى به {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشُّكرَ لأجلكم ومنفعتكم لأنَّه سببٌ لفوزكم بسعادة الدَّارينِ لا لانتفاعه تعالى به وإنَّما قيل لعباده لا لكُم لتعميم الحكمِ وتعليله بكونهم عبادَه تعالى. وقُرئ بإسكانِ الهاءِ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} بيانٌ لعدم سرايةِ كفر الكافر إلى غيرِه أصلًا أي لا تحملُ نفسٌ حاملة للوزر حملَ نفسٍ أخرى {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} بالبعث بعد الموت {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ذلك {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنتُم تعملونَه في الدُّنيا من أعمال الكفر والإيمانِ أي يُجازيكم بذلك ثوابًا وعقابًا.{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بمضمرات القلوبِ فكيف بالأعمال الظَّاهرةِ وهو تعليل للتَّنبيه. اهـ.
|